الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***
وَقَالَ الْحَسَنُ: مَنْ زَنَى بِأُخْتِهِ حُدَّ حَدَّ الزنَّا. - فيه: عَلِىٍّ حِينَ رَجَمَ الْمَرْأَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ: قَدْ رَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. - وفيه: الشَّيْبَانِىِّ: سَأَلْتُ عَبْدَاللَّهِ بْنَ أَبِى أَوْفَى: هَلْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: قَبْلَ سُورَةِ النُّورِ أَمْ بَعْدُ؟ قَالَ: لا أَدْرِى. - وفيه: جَابِرِ أَنَّ رَجُلا مِنْ أَسْلَمْ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَدَّثَهُ أَنَّهُ قَدْ زَنَى، فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَ، وَكَانَ قَدْ أُحْصِنَ. قال ابن المنذر: وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم} [النساء: 95] وقال: (من يطع الرسول فقد أطاع الله} [النساء: 80] فألزم خلفه طاعة رسوله، وثبتت الأخبار عن الرسول أنه أمر بالرجم ورجم، ألا ترى قول على: رجمنا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجم عمر بن الخطاب، فالرجم ثابت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبفعل الخلفاء الراشدين وباتفاق أئمة أهل العلم، منهم مالك بن أنس فى أهل المدينة، والأوزاعى فى أهل الشام، والثورى وجماعة أهل العراق، والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور. ودفع الخوارج الرجم والمعتزلة واعتلوا بأن الرجم ليس فى كتاب الله تعالى وما يلزمهم من اتباع كتاب الله مثله يلزمهم من اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7] فلا معنى لقول من خالف السنة وإجماع الصحابة واتفاق أئمة الفتوى ولا يعدون خلافًا. وقد روى حماد بن زيد وحماد بن سلمة وهشيم، عن على بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: سمعت عمر ابن الخطاب يقول: أيها الناس إن الرجم حق فلا يُحَد عنه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم. ورجم أبو بكر، ورجمنا بعدهما، وسيكون قوم من هذه الأمة يكذبون بالرجم والدجال، وبطلوع الشمس من مغربها، وبعذاب القبر، والشفاعة، وبقوم يخرجون من النار بعدما امتحشوا. اختلف العلماء فيمن زنا بأخته أو ذات رحم منه، فقال بقول الحسن: حده حد الزانى. مالك ويعقوب ومحمد والشافعى وأبو ثور. وقالت طائفة: إذا زنا بالمحرمة قتِل، روى عن جابر بن زيد، وهو قول أحمد وإسحاق، واحتجوا بحديث البراء أن النبى صلى الله عليه وسلم بعث إلى رجل نكح امرأة أبيه أن يضرب عنقه.
وَقَالَ عَلِيٌّ لِعُمَرَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْقَلَمَ رُفِعَ عَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ الصَّبِىِّ حَتَّى يُدْرِكَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ. - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: (أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِى الْمَسْجِدِ، فَنَادَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، حَتَّى رَدَّدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَاتٍ، دَعَاهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَهَلْ أَحْصَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: اذْهَبُوا بِهِ، فَارْجُمُوهُ). قَالَ جَابِرَ: فَكُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ، فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ، فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ، فَرَجَمْنَاهُ. قال المهلب: أجمع العلماء أن المجنون إذا أصاب الحد فى حال جنونه أنه لا يجب عليه حد، وإن أفاق من جنونه بعد مواقعة الحد؛ لأن القلم مرفوع عنه وقت فعله والخطاب غير متوجه إليه حينئذ، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم للذى شهد على نفسه أربع شهادات (أبك جنون؟) فدل قوله هذا أنه لو اعترف بالجنون لدرأ الحد عنه، وإلا فلا فائدة لسؤاله هل بك جنون أم لا؟ وأجمعوا أنه إن أصاب رجل حدا وهو صحيح ثم جن بعد ذلك، أنه لا يؤخذ منه الحد حتى يفيق. وأجمعو أن من وجب عليه حد غير الرجم وهو مريض لا يرجى برؤه فإنه ينتظر به حتى يبرأ فيقام عليه الحد، فأما الرجم فلا ينتظر به لأنه إنما يراد به التلف فلا وجه للاستئناء به، والله أعلم. وأما قوله: (فلما أذلقته الحجارة هرب) قال ابن المنذر: ذكر عن أحمد بن حنبل أنه قال: إذا هرب يترك. وقال الكوفيون: إذا هرب وطلبه الشرط واتبعوه فى فوره ذلك أقيم عليه بقية الحد، وإن أخذوه بعد أيام لم يقم عليه بقية الحد، وإن أخذوه بعد أيام لم يقم عليه بقية الحد. فاحتج أحمد بن حنبل بقوله صلى الله عليه وسلم: (هلا تركتموه) من غير رواية البخارى. قال ابن المنذر: يقام عليه الحد بعد يوم، وبعد أيام وسنين؛ لأن ما وجب عليه لا يجوز إسقاطه بمرور الأيام والليالى، ولا حجة مع من أسقط ما أوجبه الله من الحدود، وقد بين جابر بن عبد الله معنى قوله: (فهلا تركتموه) أنه لم يرد بذلك إسقاط الحد عنه. وروى محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر، عن قتادة قال: حدثنى حسين بن محمد، عن على قال: (سألت جابرًا عن قصة ماعز فقال: أنا أعرف الناس بهذا الحديث كنت فيمن رجمه، إنا لما رجمناه فوجد مس الحجارة صرخ بنا: يا قوم ردونى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن قومى هم قاتلونى وغرونى من نفسى، أخبرونى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير قاتلى. فلم ننزع عنه حتى قتلناه فلما رجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرناه، قال: فهلا تركتم الرجل وجئتمونى). ليتثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فأما لترك حد فلا. فاختلفوا إذا أقر بالزنا، ثم رجع عن إقراره. فقالت طائفة: يترك ولا يحد. هذا قول عطاء والزهرى والثورى والكوفيين والشافعى وأحمد وإسحاق. واختلف عن مالك فى هذه المسألة فحكى عنه القعنبى أنه إذا اعترف ثم رجع وقال: إنما كان هذا منى على وجه كذا وكذا لشىء يذكره، أن ذلك يقبل منه فلا يقام عليه الحد. وقال أشهب: يقبل رجوعه إن جاء بعذر وإلا لم يقبل. وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه إذا اعترف بغير محنة ثم نزع لم يقبل منه رجوعه. وقال أشهب وأهل الظاهر: وممن روى عنه أنه إذا أقر ثم رجع لا يقبل منه رجوعه، وأقيم عليه الحد؛ وهم: ابن أبى ليلى والحسن البصرى. قال ابن المنذر: واحتج الشافعى بقوله صلى الله عليه وسلم فى ماعز: (هلا تركتموه) قال: فكل حد لله فهو هكذا، ولقوله لماعز: (لعلك قبلت أوغمزت) فالنبى صلى الله عليه وسلم كان يلقنه ويعرض عليه بعد اعتراف قد سبق منه فلو أنه قال: نعم، قبلت أوغمزت لسقط عنه الرجم، وإلا لم يكن لتعريض النبى صلى الله عليه وسلم لذلك معنى فعلم أنه إنما لقنه لفائدة وهى الرجوع، فهذا دليل قاطع. وحجة الآخرين أن الحدود تلزم بالبينة أو بالإقرار، وقد تقرر أنه لو لزم الحد بالبينة لم يقبل قوله فكذلك إذا إقر ثم رجع، وقالوا: ليس قوله صلى الله عليه وسلم: (هلا تركتموه) يوجب إسقاط الحد عنه. ويحتمل أن يكون لما ذكره جابر بن عبد الله من النظر فى أمره والتثبت فى المعنى الذى هرب من أجله ولو وجب أن يكون الحد ساقطًا عنه بهربه لوجب أن يكون مقتولا خطأ. وفى ترك النبى صلى الله عليه وسلم إيجاب الدية على عواقل القاتلين له بعد هربه دليل على أنهم قاتلون من عليه القتل، إذ لو كان دمه محقونًا بهربه لأوجب على عواقل قاتليه ديته، وليس فى شىء من أخبار ماعز دليل على الرجوع عما أقر به. وأكثر ما فيه أنه سأل عندما نزل به من الألم أن يرد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل ما زنيت، وهذا القول أشبه بالصواب.
- فيه: عَائِشَةَ قَالَ صلى الله عليه وسلم: (الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ). قال أبو عبيد وجماعة من أهل اللغة: معناه أن الزانى لا حظ له فى الولد ولا يلحق به نسبه. والعرب تقول لمن طلب شيئا ليس له: بفيك الحجر، تريد الخيبة. وقال بعضهم: للعاهر الحجر أى: للزانى الرجم بالحجر إذا كان محصنًا، والعاهر: الزانى. وذكر ابن الأعرابى أن الفراش عند العرب يقال للرجل والمرأة؛ لأن كل واحد منهما فراش لصاحبه، وقد تقدم ما فيه للعلماء فى كتاب الفرائض.
- فيه: ابْنِ عُمَرَ: (أُتِىَ النبى صلى الله عليه وسلم بِيَهُودِىٍّ وَيَهُودِيَّةٍ قَدْ أَحْدَثَا جَمِيعًا، فَقَالَ لَهُمْ: مَا تَجِدُونَ فِى كِتَابِكُمْ؟ قَالُوا: إِنَّ أَحْبَارَنَا أَحْدَثُوا تَحْمِيمَ الْوَجْهِ وَالتَّجْبِيهَ، قَالَ عَبْدُاللَّهِ ابْنُ سَلامٍ: ادْعُهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِالتَّوْرَاةِ، فَأُتِىَ بِهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، وَجَعَلَ يَقْرَأُ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ سَلامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَإِذَا آيَةُ الرَّجْمِ تَحْتَ يَدِهِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَا). قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَرُجِمَا عِنْدَ الْبَلاطِ، فَرَأَيْتُ الْيَهُودِىَّ أَحْنَأَ عَلَيْهَا. قال أبو عبيد: يرويه أهل الحديث (يحنى) وإنما هو يحنأ مهموز ثابت، يقال حنا الرجل على الشىء يحنو حنوا: إذا انكب. فإن كان ذلك من خلقه قيل حناء ومنه قيل للتراس إذا صنع مقببًا محنأ. وأما قوله باب الرجم بالبلاط فلا يقتضى معنى والبلاط وغيره من الأمكنة سواء، وإنما يرجم به؛ لأنه مذكور فى الحديث. وقال الأصمعى: البلاط: الأرض الملساء. وذكر محمد بن إسحاق عن الزهرى، عن أبى هريرة: أن هذا الحديث كان حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. قال مالك: ولم يكونا أهل ذمة وإنما كانوا أهل حرب حكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم بينهم. وقال بعض العلماء: معنى قول مالك: ولم يكونا أهل ذمة. لأنهما لو كانا أهل ذمة لم يسألهما النبى صلى الله عليه وسلم كيف الحكم عندهم ولا حكم عليهم بقول أساقفتهم؛ لأن الحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه كحكمه بين المسلمين سواء. ويحتمل مسيره صلى الله عليه وسلم إلى بيت المدراس وسؤاله اليهود عن حكم الزانيين أحد معنيين: إما أن يكون لما أراد الله تكذيبهم وإظهار ما بدلوا من حكم الله، ولذلك ألقى تعالى فى قلوبهم المحاكمة إليه، وأعلمهم أن فى التوراة حكم الله فى ذلك لقوله تعالى: {وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله} [المائدة: 43]. والمعنى الثانى: أن يكون حكم الرجم لم ينزل على النبى صلى الله عليه وسلم وقد روى معمر عن ابن شهاب قال: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم: (إنا أنزلنا فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا} [المائدة: 44] فكان النبى صلى الله عليه وسلم منهم. وفى هذا الحديث من الفقه حجة لمالك فى قوله: إن أهل الكتاب إذا تحاكموا إلينا أنه جائز أن يترجم عنهم مترجم واحد كما ترجم عبد الله بن سلام عن التوراة وحده. وقد تقدم ما للعلماء فى هذه المسألة فى كتاب الأحكام. وفى قوله: (فرأيت اليهودى أحنا عليها) دليل أنه لا يحفر للمرجوم ولا للمرجومة؛ لأنه لو كان حفيرًا ما استطاع أن يحنو عليها، وبهذا استدل مالك. وقال أحمد بن حنبل: أكثر الأحاديث على ألا يحفر، والرجم إنما يجب أن يعم جميع بدنه، فإذا كان فى حفرة غاب بعض بدنه. وقال الكوفيون: لا يحفر لهما، وإن حفر فحسن. وخير الشافعى فى أى ذلك شاء. وقال أصبغ: يستحب أن يحفر لهما وترسل يداه يدرأ بهما عن وجهه. قال الطحاوى: روى عن على أنه حفر لشراحة، وفى قصة الجهينية أنه شد عليها ثيابها ثم أمر برجمها من غير أن يحفر لها. وفى هذا الحديث حجة للثورى أن المحدود لا يقعد، ويضرب قائمًا، والمرأة قاعدة. قال المحتج به: وقوله (فرأيت الرجل يحنأ على المرأة) يدل أن الرجل كان قائمًا والمرأة قاعدة. وقال مالك: الرجل والمرأة فى الحدود كلها سواء، لا يقام واحد منهما ويضربان قاعدين ويجرد الرجل ويترك على المرأة ما يسترها ولا يقيها الضرب. وقال الشافعى والليث وأبو حنيفة: الضرب فى الحدود كلها قائمًا مجردًا غير ممدود إلا حد القذف فإنه يضرب وعليه من ثيابه ما لا يقيه الضرب.
- فيه: جَابِرٍ: (أَنَّ رَجُلا مِنْ أَسْلَمَ جَاءَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَاعْتَرَفَ بِالزِّنَا، فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، قَالَ لَهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لا، قَالَ: آحْصَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ، فَرُجِمَ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ، فَرَّ فَأُدْرِكَ فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: خَيْرًا، وَصَلَّى عَلَيْهِ). لا معنى لهذا التبويب أيضًا والرجم بالمصلى كالرجم بسائر المواضع وإنما ترجم بذلك لأنه مذكور فى الحديث. وهذا الرجل المعترف هو ماعز بن مالك الأسلمى. روى يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: (أن ماعز بن مالك أتى إلى أبى بكر الصديق فأخبره أنه زنى، فقال أبو بكر: هل ذكرت ذلك لأحد غيرى؟ قال: لا. قال أبو بكر: استتر بستر الله وتب إلى الله، فإن الناس يعيرون ولا يغيرون، وإن الله يقبل التوبة عن عباده، فلم تقرره نفسه، حتى أتى إلى عمر بن الخطاب فقال له مثلما قال لأبى بكر، فقال له عمر مثلما قال له أبو بكر، فلم تقرره نفسه حتى أتى النبى صلى الله عليه وسلم...) وذكر الحديث. وقال عيسى بن دينار: كان ماعز يتيمًا عند هذال قال: فأمره هذال أن يأتى النبى صلى الله عليه وسلم فيعترف، فلما أمر برجمه وأحرقته الحجارة هرب فلقيه عبد الله بن أنيس فحذفه برضيف جمل فقتله. وفى هذا الحديث من الفقه رجم الثيب بلا جلد، وعلى هذا فقهاء الأمصار؛ لأن النبى، عليه السلام، أمر برجم ماعز ولم يحده وأمر أنيسًا الأسلمى أن يرجم المرأة إن اعترفت ولم يأمره بجلدها. وخالف ذلك إسحاق بن راهويه وأهل الظاهر فقالوا: عليه الجلد والرجم. وروى مثله عن على بن أبى طالب وأبى بن كعب والحسن البصرى، واحتجوا بحديث ابن جريج، عن أبى الزبير، عن جابر أن رجلا زنا فأمر به النبى صلى الله عليه وسلم فجلد ثم أخبر أنه كان أحصن فأمر به فرجم. وقالوا: هكذا حد المحصن الجلد والرجم جميعًا. واحتجوا بحديث عبادة بن الصامت أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم). واحتج عليهم الجماعة فقالوا: يجوز أن يكون النبى صلى الله عليه وسلم إنما جلده حين لم يعلم أنه محصن فلما أخبر أنه محصن أمر برجمه، والجلد الذى جلده ليس من حده فى شىء. وأمَّا حديث عبادة بن الصامت فمنسوخ بحديث ماعز وبحديث العسيف؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم رجمهما ولم يحدهما. فثبت أن هذا حكم أحدثه الله نسخ به ما قبله. وقال النسائى: ليس فى شىء من الأحاديث قدر الحجر الذى يرمى به. وقال مالك: لا يرمى بالصخور العظام ويأمر الإمام بذلك ولا يتولاه بنفسه، ولا يرفع عنه حتى يموت، ويخلى بينه وبين أهله يغسلونه ويصلون عليه، ولا يصلى عليه الإمام. وفى حديث جابر أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى عليه من رواية معمر عن الزهرى، وفيه حجة لمن قال من العلماء أن للإمام أن يصلى عليه إن شاء. وقد روى عمران بن حصين (أن امرأة أتت النبى صلى الله عليه وسلم فذكرت أنها زنت، فلما وضعت أمر بها فرجمت وصلى عليها، فقال له عمر: أتصلى عليها وقد زنت؟ فقال: والذى نفسى بيده لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين لوسعتهم). وقد وجه بعض العلماء قول مالك: لا يصلى عليه الإمام. فقال: إنما قال ذلك ليكون ردعًا لأهل المعاصى، ولئلا يجترئ الناس على مثل فعله إذا رأوا أنه ممن لا يصلى عليه الإمام لعظيم ذنبه.
قَالَ عَطَاءٌ: لَمْ يُعَاقِبْهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لَمْ يُعَاقِبِ النَّبىّ عليه السَّلام الَّذِى جَامَعَ فِى رَمَضَانَ، وَلَمْ يُعَاقِبْ عُمَرُ صَاحِبَ الظَّبْىِ. - وَفِيهِ عَنْ أَبِى عُثْمَانَ، عَنْ أَبِى مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم. - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلا وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ فِى رَمَضَانَ، فَاسْتَفْتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً؟ قَالَ: لا، قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ صِيَامَ شَهْرَيْنِ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا). - وفيه: عَائِشَةَ: (أَتَى رَجُلٌ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فِى الْمَسْجِدِ، قَالَ: احْتَرَقْتُ، قَالَ: مِمَّ ذَاكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ بِامْرَأَتِى فِى رَمَضَانَ، قَالَ لَهُ: تَصَدَّقْ، قَالَ: مَا عِنْدِى شَيْءٌ، فَجَلَسَ، وَأَتَاهُ إِنْسَانٌ يَسُوقُ حِمَارًا، وَمَعَهُ طَعَامٌ، قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ: مَا أَدْرِى مَا هُوَ؟ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَيْنَ الْمُحْتَرِقُ؟ فَقَالَ: هَا أَنَا ذَا، قَالَ: خُذْ هَذَا، فَتَصَدَّقْ بِهِ... الحديث. أجمع العلماء أنه من أصاب ذنبًا فيه حد أنه لا ترفعه التوبة ولا يجوز للإمام العفو عنه إذا بلغه. ومن التوبة عندهم أن يطهر ويكفر بالحد إلا الشافعى، ذكر عنه ابن المنذر أنه قال: إذا تاب قبل أن يقام عليه الحد سقط عنه، فأما من أصاب ذنبًا دون الحد ثم جاء تائبًا فتوبته تسقط عنه العقوبة، وليس للسلطان الاعتراض عليه بل يؤكد بصيرته فى التوبة، ويأمره بها لينتشر ذلك، فيتوب المذنب ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم لما فهم من المواقع أهله فى رمضان الندم على فعله من صورة فزعه وقوله: احترقت. لم يعاقبه النبى صلى الله عليه وسلم ولا أنبهُ بل أعطاه ما يكفر به. وأما حديث أبى عثمان عن ابن مسعود الذى أشار إليه البخارى ولم يذكره فهو أبين شىء فى هذا الباب، وقد ذكره فى باب مواقيت الصلاة فى باب الصلاة كفارة. قال ابن مسعود: إن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبى صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزل: (أقم الصلاة طرفى النهار وزلفًا} [هود: 114] الآية فقال الرجل: إلى هذا يا رسول الله؟ قال: (لجميع أمتى كلهم). وروى يحيى عن التيمى بإسناده أن النبى صلى الله عليه وسلم قال له: (قم فصل ركعتين). وروى علقمة والأسود هذا الحديث عن ابن مسعود وبينا فيه ما دل أنه جاء الرجل تائبًا نادمًا. وقال ابن مسعود: جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: (إنى عالجت امرأة فأصبت منها ما دون أن أمسها وأنا ها ذا فأقم على ما شئت. فقال له عمر: قد ستر الله عليك فلو سترت على نفسك...). وحجة جماعة الفقهاء فى أن التوبة لا تسقط الحد قول النبى صلى الله عليه وسلم فى المرأة الجهينية: (لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أن جادت بنفسها). وقال فى الغامدية: (لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له). فإقامة الرسول صلى الله عليه وسلم الحد على هاتين مع توبتهما دليل قاطع على أن سقوط الحد بالتوبة إنما خص به المحاربون دون غيرهم.
- فيه: أَنَسِ، قَالَ: (كُنْتُ عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَىَّ، قَالَ: وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ، قَالَ وَحَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَصَلَّى مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَضَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلاةَ، قَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْ فِىَّ كِتَابَ اللَّهِ، قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مَعَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ). قال المهلب وغيره: لما أقر الرجل عند النبى صلى الله عليه وسلم بأنه أصاب حدا، ولم يبين الحدَّ، ولم يكشفه النبى صلى الله عليه وسلم عنه ولا استفسره صلى الله عليه وسلم؛ فدل على أن الكشف عن الحدود لا يحل فإن الستر أولى. وكأنه صلى الله عليه وسلم رأى أن الكشف عن ذلك ضرب من التجسس المنهى عنه فلذلك أضرب عنه وجعلها شبهة درأ بها الحد؛ لأنه كان بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا. وجائز أن يكون الرجل ظن أن الذى أصاب حدا وليس بحد فيكون ذلك مما يكفر بالوضوء والصلاة، ولما لم تجز إقامة الحدود بالكناية دون الإفصاح وجب ألا يكشف السلطان عليه؛ لأن الحدود لا تقام بالشبهات بل تدرأ بها، وهذا يوجب على المرء أن يستر على نفسه إذا واقع ذنبًا ولا يخبر به أحدًا لعلَّ الله تعالى أن يستره عليه وقد جاء فى هذا الحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم: (من ستر مسلمًا ستره الله) فستر المرء على نفسه أولى به من ستره على غيره.
- فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِى اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: (لَمَّا أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لَهُ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ غَمَزْتَ، أَوْ نَظَرْتَ؟ قَالَ: لا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَنِكْتَهَا؟ لا يَكْنِى، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ). قال المهلب وغيره: فى هذا الحديث دليل على جواز تلقين المقر فى الحدود ما يدرأ بها عنه ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لماعز: (لعلك غمزت أو قبلت) ليدرأ عنه الحد إذ لفظ الزنا يقع على نظر العين وجميع الجوارح، فلما أتى ماعز بلفظ مشترك لم يحده النبى صلى الله عليه وسلم حتى وقف على صحيح ما أتاه بغير إشكال؛ لأن من سننه صلى الله عليه وسلم درء الحدود بالشبهات، فلما أفصح وبين أمر برجمه. قال غيره: وهذا يدل أن الحدود لا تقام إلا بالإفصاح دون الكنايات، ألا ترى لو أن الشهود شهدوا على رجل بالزنا، ولم يقولوا رأيناه أولج فيها كان حكمهم حكم من قذف لا حكم من شهد، رفقًا من الله بعباده وسترًا عليهم ليتوبوا. قال المهلب: وقد استعمل التلقين بعد النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه الراشدون روى مالك عن يحيى ابن سعيد أن عمر أتاه رجل وهو بالشام فذكر أنه وجد مع امرأته رجلا، فبعث عمر أبا واقد إلى امرأته يسألها عما قال زوجها لعمر، وأخبرها أنها لا تؤخذ بقوله، وجعل يلقنها أشباه ذلك لتنزع، فأبت أن تنزع فرجمها عمر. وروى معمر بإسناده أن عمر أتى برجل فقيل: إنه سارق، فقال عمر: إنى لأرى يد رجل ما هى بيد سارق، فقال الرجل: والله ما أنا بسارق فخلى سبيله. وعن الشعبى قال: أُتى على بامرأة يقال لها شراحة وهى حبلى من الزنا، فقال: ويحك لعل رجلا استكرهك، قالت: لا. قال: لعل وقع عليك وأنت نائمة. قالت: لا. قال: فلعل زوجك من عدونا، يعنى أهل الشام، فأنت تكرهين أن تدلى عليه. قالت: لا. فجعل يلقنها هذا وأشباهه وتقول: لا. فرجمها. وعن أبى مسعود أتى بسارق سرق بعيرًا. فقال: هل وجدته؟ قال: نعم. فخلى سبيله. قال المهلب: فهذا وجه التلقين بالتعريض لمن يعرف الحد وما يلزمه فيه، وأما تلقين الجاهل ومن لا يعرف الكلام فهو تصريح. وروى ابن جريج عن عطاء قال: كان بعضهم يؤتى بالسارق فيقول: أسرقت؟ قل: لا، أسرقت؟ قل: لا. وعلمى أنه سمى أبا بكر وعمر. وروى شعبة عن أبى الدرداء أنه أتى بجارية سوداء سرقت، فقال لها: أسرقت يا سلامة؟ قولى: لا قالت: لا فخلى سبيلها، فقلت: أنت تلقنها؟ قال أبو الدرداء: إنها اعترفت وهى لا تدرى ما يُراد بها. وقال الأعمش: كان إبراهيم يأمر بطرح المعترفين، وكان أحمد وإسحاق يريان تلقين السارق إذا أتى به. وكذلك قال أبو ثور: إذا كان السارق امرأة أو لا يدرى ما يصنع به أو ما يقول. قال المهلب: هذا التلقين على اختلاف منازله بسنة لازمة إلا عند اختيار الإمام ذلك، وله ألا يلقن ولا يعرض لقوله: (بينة وإلا حد فى ظهرك). وأما التلقين الذى لا يحل فتلقين الخصمين فى الحقوق وتداعى الناس، وكذلك لا يجب تلقين المنتهك المعروف بذلك إذا تبين ما أقر به أو شهد عليه ويلزم الإمام إقامة الحد فيه.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (أَتَى إِلَى النَّبىّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ فِى الْمَسْجِدِ، فَنَادَاهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى زَنَيْتُ، يُرِيدُ نَفْسَهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، فَتَنَحَّى لِشِقِّ وَجْهِهِ الَّذِى أَعْرَضَ عَنْهُ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: أَحْصَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ.. الحديث. هذا لازم لكل إمام أن يسأل المقر إن كان محصنًا أو غير محصن، لأن الله قد فرق بين حد المحصن والبكر، فواجب على الإمام أن يقف على ذلك كما يجب عليه إذا أشكل إعلام المقر أن يسأله عن ذلك، ثم بعد ذلك يلزمه تصديق كل واحد منهما؛ لأن الحد لا يقام إلا باليقين ولا يحل فيه التجسس. قال المهلب: ولما كان قوله مقبولا فى اللمس والغمز كان قوله مقبولا فى الإحصان، فالباب واحد فى ذلك. اختلف العلماء فى الاعتراف بالزنا الذى يجب فيه الحد هل يفتقر إلى عدد أم لا. فقالت طائفة: لابد من اعتراف أربع مرات على ما جاء فى الحديث هذا قول ابن أبى ليلى والثورى والكوفيين وأحمد غير أن ابن أبى ليلى وأحمد قالا: يجزئ إلا فى أربع مرات فى مجلس واحد. وقال الكوفيون: لا يجزىء إلا فى أربع مواضع. وقال آخرون: إذا اعترف بالزنا مرة واحدة وثبت على ذلك لزمه الحد، روى هذا عن أبى بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وهو قول مالك والشافعى وأبى ثور. وقال أهل المقالة الأولى: لما كان الزنا مخصوصًا من بين سائر الحقوق بأربعة شهداء جاز أن يكون مخصوصًا بإقرار أربع مرات. واحتج عليهم الآخرون فقالوا: قد قال صلى الله عليه وسلم: (اغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ولم يقل له إن اعترفت أربعًا، فلا معنى لاعتبار العدد فى الإقرار، وأيضًا فإنه لا يدل على مخالفة الزنا لسائر الحقوق فى أنه مخصوص بأربعة شهداء على مخالفته فى الإقرار؛ لأن القتل مخالف للأموال فى الشهادات فلا يقبل فى القتل إلا شاهدان، ويقبل فى الأموال شاهد وامرأتان، ثم اتفقا فى باب الإقرار أنه يقبل فيه إقرار مرة. ولو وجب اعتبار الإقرار بالشهادة لوجب ألا يقبل فى الموضع الذى يقبل فيه شاهدان إلا إقرار مرتين. وقد أجمع العلماء أن سائر الإقرارات فى الشرع يكتفى فيها مرة واحدة، وإن أقر بالردة مرة واحدة يلزمه اسم الكفر، والقتل واجب عليه فلزم فى الزنا مثله. فإن قالوا: فلم لم يُقم النبى صلى الله عليه وسلم الحد بإقراره أول مرة؟ قيل: فائدة الخبر أنه صلى الله عليه وسلم لما رآه مختل الصورة فزعًا أراد التثبيت فى أمره هل به جنة أم لا، مع أنه كره ما سمع منه فأعرض عنه رجاء أن يستر على نفسه، ويتوب إلى الله، ألا ترى أنه لقنه فقال: (لعلك لمست أو غمزت) فلا معنى لاعتباره العدد فى الإقرار. وقوله: جمز أى: أسرع يهرول، وقال بعض السلف لرجل: اتق الله قبل أن يجمز بك. يريد المشى السريع فى جنازته. وقال الكسائى: الناقة تعدو الجمز وهو العدو الذى نثر وقال رؤبة: فإن تريننى اليوم جمزى
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ وَزَيْدَ بْنَ خَالِدٍ قَالا: (كُنَّا عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ، إِلا قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَامَ خَصْمُهُ، وَكَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ، فَقَالَ: اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأْذَنْ لِى، قَالَ: قُلْ، قَالَ: إِنَّ ابْنِى كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَخَادِمٍ، ثُمَّ سَأَلْتُ رِجَالا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَأَخْبَرُونِى أَنَّ عَلَى ابْنِى جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ، وَعَلَى امْرَأَتِهِ الرَّجْمَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لأقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، الْمِائَةُ شَاةٍ وَالْخَادِمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَغَدَا عَلَيْهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَرَجَمَهَا). - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ عُمَرُ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ: قَائِلٌ: لا نَجِدُ الرَّجْمَ فِى كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ، أَنْزَلَهَا اللَّهُ، أَلا وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَدْ أَحْصَنَ، إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ، أَوِ الاعْتِرَافُ. قال المهلب وغيره: فى هذا الحديث ضروب من الفقه: منها الترافع إلى السلطان الأعلى فيما قد غيره ممن هو دونه إذا لم يوافق الحق. ومنها فسخ كل صلح ورد كل حكم وقع على خلاف السنة. قال غيره: وفيه أن ما قبضه الذى قضى له بالباطل لا يصلح له ملكه. وفيه: أن العالم قد يُفتى فى مصر فيه من هو أعلم منه، ألا ترى أنه سأل أهل العلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، وكذلك كان الصحابة يفتون فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم. وفى سؤاله أهل العلم ورجوعه إلى النبى صلى الله عليه وسلم دليل على أنه يجوز للرجل ألا يقتصر على قول واحد من العلماء. وفيه: أنه جائز للخصم أن يقول للإمام العدل: احكم بيننا بالحق، لأنه قال للنبى صلى الله عليه وسلم: اقض بيننا بكتاب الله، وقد علم أنه لا يقضى إلا بما أمره الله، ولم ينكر ذلك عليه النبى صلى الله عليه وسلم. وقال الملكان لداود صلى الله عليه وسلم فاحكم بيننا بالحق، وذلك إذا لم يرد السائل التعريض. وقوله: وكان أفقههما يعنى والله أعلم لاستئذانه النبى صلى الله عليه وسلم فى الكلام وترك صاحبه لذلك تأكيدًا. واختلف العلماء فى تأويل ذلك فقال بعضهم: الرجم فى كتاب الله فى قوله تعالى: {ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله} [النور: 8]. والعذاب الذى تدرؤه الزوجة عن نفسها باللعان هو الذى يجب عليها بالبينة أو بالإقرار أو بالنكول عن اللعان. وقد بين صلى الله عليه وسلم آية الرجم فى الثيب برجم ماعزٍ وغيره. وقال آخرون: الرجم مما نسخ من القرآن خطه وثبت حكمه. وقال غيره: معنى قوله (لأقضين بينكما بكتاب الله) أى بحكم الله وبفرضه، هذا جائز فى اللغة قال تعالى: {كتاب الله عليكم} [النساء: 24] أى حكمه فيكم وقضاؤه عليكم ومنه قوله تعالى: {أم عندهم الغيب فهم يكتبون} [الطور: 41] أى يقضون. وكذلك قوله: (كتب ربكم على نفسه الرحمة} [الأنعام: 54] وكل ما قضى به النبى صلى الله عليه وسلم فهو حكم الله. وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعلهما قاذفين حين أخبراه. وليس فى الحديث أنه سأل ابن الرجل هل زنا؟ وهل صدقا عليه أم لا؟ ولكن من مفهوم الحديث أنه أقر لأنه لا يجوز أن يقام الحد إلا بالإقرار أو بالبينة، ولم يكن عليهما بينة لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن اعترفت فارجمها). وفيه: النفى والتغريب للبكر الزانى خلاف قول أبى حنيفة فى إسقاطه النفى عن الزانى وستأتى أقوال العلماء فى ذلك فى موضعها إن شاء الله تعالى. وفى الحديث من الفقه: رجم الثيب بلا جلد على ما ذهب إليه أئمة الفتوى بالأمصار. وفيه من الفقه: استماع الحكم من أحد الخصمين وصاحبه غائب وفتياه له دون خصمه ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم قد أفتاهما والمرأة غائبة وكانت إحدى الخصمين. وفيه: تأخير الحدود عند ضيق الوقت؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمره بالغدو إلى المرأة فإن اعترفت رجمها. وفيه: إرسال الواحد فى تنفيذ الحكم. وفيه: إقامة الحد على من أقر على نفسه مرة واحدة؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يقل لأنيس فإن اعترفت أربع مرات وقد تقدم القول فى هذه المسألة فى الباب الذى قبل هذا. وفيه: دليل على صحة قول مالك وجمهور الفقهاء أن الإمام لا يقوم بحد من قذف بين يديه حتى يطلبه المقذوف؛ لأن له أن يعفو عن قاذفه أو يريد سترًا، ألا ترى أنه قال بين يدى النبى صلى الله عليه وسلم: (إن ابنى كان عسيفًا على هذا فزنا بامرأته فقذفها) فلم يقم عليه النبى صلى الله عليه وسلم الحد؛ لأنها لما اعترفت بالزنا سقط حكم قذفها، ومثله حديث العجلانى حين رمى امرأته برجل فلاعن بينه وبين امرأته؛ لأنه لم يطلبه بحده ولو طلبه به لحُد إلا أن يقيم البينة على ما قال. والمخالف فى هذه المسألة ابن أبى ليلى فإنه يقول: إن الإمام يحد القاذف وإن لم يطلبه المقذوف. وقوله خلاف السنن فسيأتى ما بقى من معانى هذا الحديث بعد هذا فى مواضعه إن شاء الله تعالى، وكذلك حديث ابن عباس سيأتى الكلام عليه فى الباب بعد هذا إن شاء الله تعالى.
- فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَبَيْنَمَا أَنَا فِى مَنْزِلِهِ بِمِنًى، وَهُوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِى آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا؛ إِذْ رَجَعَ إِلَىَّ عَبْدُالرَّحْمَنِ، فَقَالَ: لَوْ رَأَيْتَ رَجُلا أَتَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ لَكَ فِى فُلانٍ، يَقُولُ: لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ، لَقَدْ بَايَعْتُ فُلانًا، فَوَاللَّهِ مَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِى بَكْرٍ إِلا فَلْتَةً، فَتَمَّتْ، فَغَضِبَ عُمَرُ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّى إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَقَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِى النَّاسِ، فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ، قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ: فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لا تَفْعَلْ، فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ، فَإِنَّهُمْ هُمِ الَّذِينَ يَغْلِبُونَ عَلَى قُرْبِكَ حِينَ تَقُومُ فِى النَّاسِ، وَأَنَا أَخْشَى أَنْ تَقُومَ فَتَقُولَ مَقَالَةً يُطَيِّرُهَا عَنْكَ كُلُّ مُطَيِّرٍ، وَأَنْ لا يَعُوهَا، وَأَنْ لا يَضَعُوهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا، فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ، فَإِنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ، فَتَخْلُصَ بِأَهْلِ الْفِقْهِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ، فَتَقُولَ مَا قُلْتَ مُتَمَكِّنًا، فَيَعِى أَهْلُ الْعِلْمِ مَقَالَتَكَ، وَيَضَعُونَهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا، فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لأقُومَنَّ بِذَلِكَ أَوَّلَ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فِى عُقْبِ ذِى الْحَجَّةِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، عَجَّلْتُ الرَّوَاحَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ حَتَّى أَجِدَ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ جَالِسًا إِلَى رُكْنِ الْمِنْبَرِ، فَجَلَسْتُ حَوْلَهُ تَمَسُّ رُكْبَتِى رُكْبَتَهُ، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ خَرَجَ عُمَرُ ابْنُ الْخَطَّابِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ مُقْبِلا، قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: لَيَقُولَنَّ الْعَشِيَّةَ مَقَالَةً لَمْ يَقُلْهَا مُنْذُ اسْتُخْلِفَ، فَأَنْكَرَ عَلَىَّ، وَقَالَ: مَا عَسَيْتَ أَنْ يَقُولَ مَا لَمْ يَقُلْ قَبْلَهُ؟ فَجَلَسَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمَّا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُونَ، قَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّى قَائِلٌ لَكُمْ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ لِى أَنْ أَقُولَهَا، لا أَدْرِى لَعَلَّهَا بَيْنَ يَدَىْ أَجَلِى، فَمَنْ عَقَلَهَا وَوَعَاهَا، فَلْيُحَدِّثْ بِهَا حَيْثُ انْتَهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَمَنْ خَشِىَ أَنْ لا يَعْقِلَهَا فَلا أُحِلُّ لأحَدٍ أَنْ يَكْذِبَ عَلَىَّ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةُ الرَّجْمِ فَقَرَأْنَاهَا، وَعَقَلْنَاهَا، وَوَعَيْنَاهَا، رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: وَاللَّهِ، مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِى كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ، أَنْزَلَهَا اللَّهُ، وَالرَّجْمُ فِى كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ، أَوِ الاعْتِرَافُ، ثُمَّ إِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ فِيمَا نَقْرَأُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَنْ لا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ أَوْ إِنَّ كُفْرًا بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، أَلا ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لا تُطْرُونِى كَمَا أُطْرِىَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ إِنَّهُ بَلَغَنِى أَنَّ قَائِلا مِنْكُمْ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ، بَايَعْتُ فُلانًا، فَلا يَغْتَرَّنَّ امْرُؤٌ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِى بَكْرٍ فَلْتَةً وَتَمَّتْ، أَلا وَإِنَّهَا قَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ وَقَى شَرَّهَا، وَلَيْسَ مِنْكُمْ مَنْ تُقْطَعُ الأعْنَاقُ إِلَيْهِ مِثْلُ أَبِى بَكْرٍ، مَنْ بَايَعَ رَجُلا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلا يُبَايَعُ هُوَ وَلا الَّذِى بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلا، وَإِنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ خَبَرِنَا حِينَ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الأنْصَارَ خَالَفُونَا، وَاجْتَمَعُوا بِأَسْرِهِمْ فِى سَقِيفَةِ بَنِى سَاعِدَةَ، وَخَالَفَ عَنَّا عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ وَمَنْ مَعَهُمَا، وَاجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى أَبِى بَكْرٍ، فَقُلْتُ لأبِى بَكْرٍ: يَا أَبَا بَكْرٍ، انْطَلِقْ بِنَا إِلَى إِخْوَانِنَا هَؤُلاءِ مِنَ الأنْصَارِ، فَانْطَلَقْنَا نُرِيدُهُمْ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْهُمْ لَقِيَنَا مِنْهُمْ رَجُلانِ صَالِحَانِ، فَذَكَرَا مَا تَمَالأ عَلَيْهِ الْقَوْمُ، فَقَالا: أَيْنَ تُرِيدُونَ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ؟ فَقُلْنَا: نُرِيدُ إِخْوَانَنَا هَؤُلاءِ مِنَ الأنْصَارِ، فَقَالا: لا عَلَيْكُمْ أَنْ لا تَقْرَبُوهُمُ، اقْضُوا أَمْرَكُمْ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَنَأْتِيَنَّهُمْ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَاهُمْ فِى سَقِيفَةِ بَنِى سَاعِدَةَ، فَإِذَا رَجُلٌ مُزَمَّلٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقُلْتُ: مَا لَهُ؟ قَالُوا: يُوعَكُ، فَلَمَّا جَلَسْنَا قَلِيلا، تَشَهَّدَ خَطِيبُهُمْ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ وَكَتِيبَةُ الإسْلامِ، وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ رَهْطٌ، وَقَدْ دَفَّتْ دَافَّةٌ مِنْ قَوْمِكُمْ، فَإِذَا هُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْتَزِلُونَا مِنْ أَصْلِنَا، وَأَنْ يَحْضُنُونَا من الأمْرِ، فَلَمَّا سَكَتَ أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، وَكُنْتُ قَدْ زَوَّرْتُ مَقَالَةً أَعْجَبَتْنِى أُرِيدُ أَنْ أُقَدِّمَهَا بَيْنَ يَدَىْ أَبِى بَكْرٍ، وَكُنْتُ أُدَارِى مِنْهُ بَعْضَ الْحَدِّ، فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَلَى رِسْلِكَ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُغْضِبَهُ، فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَكَانَ هُوَ أَحْلَمَ مِنِّى، وَأَوْقَرَ، وَاللَّهِ مَا تَرَكَ مِنْ كَلِمَةٍ أَعْجَبَتْنِى فِى تَزْوِيرِى إِلا قَالَ فِى بَدِيهَتِهِ مِثْلَهَا، أَوْ أَفْضَلَ مِنْهَا، حَتَّى سَكَتَ، فَقَالَ: مَا ذَكَرْتُمْ فِيكُمْ مِنْ خَيْرٍ، فَأَنْتُمْ لَهُ أَهْلٌ، وَلَنْ يُعْرَفَ هَذَا الأمْرُ إِلا لِهَذَا الْحَىِّ مِنْ قُرَيْشٍ، هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ نَسَبًا وَدَارًا، وَقَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، فَبَايِعُوا أَيَّهُمَا شىءتُمْ، فَأَخَذَ بِيَدِى وَبِيَدِ أَبِى عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَهُوَ جَالِسٌ بَيْنَنَا، فَلَمْ أَكْرَهْ مِمَّا قَالَ غَيْرَهَا، كَانَ وَاللَّهِ أَنْ أُقَدَّمَ فَتُضْرَبَ عُنُقِى لا يُقَرِّبُنِى ذَلِكَ مِنْ إِثْمٍ، أَحَبَّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ أَتَأَمَّرَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ، اللَّهُمَّ إِلا أَنْ تُسَوِّلَ إِلَىَّ نَفْسِى عِنْدَ الْمَوْتِ شَيْئًا لا أَجِدُهُ الآنَ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنَ الأنْصَارِ: أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ، وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ، مِنَّا أَمِيرٌ، وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، فَكَثُرَ اللَّغَطُ، وَارْتَفَعَتِ الأصْوَاتُ حَتَّى فَرِقْتُ مِنَ الاخْتِلافِ، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَدَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، فَبَسَطَ يَدَهُ، فَبَايَعْتُهُ وَبَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ، ثُمَّ بَايَعَتْهُ الأنْصَارُ، وَنَزَوْنَا عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ، قَتَلْتُمْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، فَقُلْتُ: قَتَلَ اللَّهُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، قَالَ عُمَرُ: وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا وَجَدْنَا فِيمَا حَضَرْنَا مِنْ أَمْرٍ أَقْوَى مِنْ مُبَايَعَةِ أَبِى بَكْرٍ، خَشِينَا إِنْ فَارَقْنَا الْقَوْمَ، وَلَمْ تَكُنْ بَيْعَةٌ أَنْ يُبَايِعُوا رَجُلا مِنْهُمْ بَعْدَنَا، فَإِمَّا بَايَعْنَاهُمْ عَلَى مَا لا نَرْضَى، وَإِمَّا نُخَالِفُهُمْ، فَيَكُونُ فَسَادٌ، فَمَنْ بَايَعَ رَجُلا على غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلا يُتَابَعُ هُوَ وَلا الَّذِى بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلا. أما قوله: باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت فمعناه: باب هل يجب على الحبلى رجم أم لا؟ وأجمع العلماء أن الحبلى من الزنا لا رجم عليها حتى تضع. واختلفوا إذا وضعت متى يجب عليها الرجم. فقال مالك: إذا وضعت حُدَّت إذا وجد للمولود من يرضعه وإن لم يوجد أخّرت حتى ترضعه وتفطمه خوف هلاكه. وقال الشافعى: لا ترجم حتى تفطمه كما فعل صلى الله عليه وسلم فى المرجومة على ما رواه مالك فى الموطأ. وقال الكوفيون: ترجم بعد الوضع على ما رواه عمران بن حصين أن امرأة أتت النبى صلى الله عليه وسلم فذكرت أنها زنت فأمر بها أن تقعد حتى تضعه، فلما وضعته أتته فأمر بها فرجمت وصلى عليها. واختلفوا فى المرأة توجد حاملا ولا زوج لها، فقال مالك: إن قالت استكرهت أو تزوجت. أن ذلك لا يقبل منها ويقام عليها الحد؛ إلا أن تقيم بينة على ما ادَّعت من ذلك، أو تجئ بدماء أو استغاثت حتى أتت وهى على ذلك. وقال ابن القاسم: إن كانت غريبة طارئة فلا حد عليها. وقال الكوفيون والشافعى: إذا وجدت حاملا ولا زوج لها فلا حد عليها إلا أن تقر بالزنا أو تقوم عليها بينة، ولم يفرقوا بين طارئة وغيرها واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات). وحجة مالك: قول عمر بن الخطاب فى هذا الحديث: (الرجم فى كتاب الله حق على من زنا إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف) فسوى بين البينة والإقرار وبين وجود الحبل فى أن ذلك كله موجب للرجم. وقد روى مثل هذا القول عن عثمان وعلى وابن عباس، ولا مخالف لهم من الصحابة. وفى هذا الحديث ضروب من العلم منها: قول ابن عباس: (كنت أقرئُ رجالا من المهاجرين) يعنى أقرئهم القرآن، ففيه أن العلم يأخذه الكبير عن الصغير؛ لأن ابن عباس لم يكن من المهاجرين لصغر سنة. قال المهلب: وقول القائل: (لو مات عمر بايعت فلانًا) يعنى رجلا من الأنصار ففيه أن رفع مثل هذا لخبر إلى السلطان واجب لما يخاف من الفتنة على المسلمين، ألا ترى إنكار عمر تلك المقالة، وقال: (لن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحى من قريش) والمعروف هو الشىء الذى لا يجوز خلافه. وهذا يدل أنه لم يختلف فى ذلك على عهد النبى صلى الله عليه وسلم ولو اختلف فيه لعُلم الخلاف فيه، والمعروف ما عرفه أهل العلم وإن جهله كثير من غيرهم كما أن المنكر ما أنكره أهل العلم. والدلائل على أن الخلافة فى قريش كثيرة منها أنه صلى الله عليه وسلم أوصى بالأنصار من ولى أمر المسلمين أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، فأخبر أنهم مستوصى بهم محتاجون أن يتقبل إحسانهم ويتجاوز عن إساءتهم، وفى هذا دليل واضح أنه ليس لهم فى الخلافة حق، وكذلك قال عمر: إنى لقائم العشية فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم. فالغصب لا يكون إلا أخذ ما لا يجب وإخراج الأمر عن قريش هو الغصب. قال المهلب: وفى قول عبد الرحمن لعمر حين أراد أن يقوم فى الموسم دليل على جواز الاعتراض على السلطان فى الرأى إذا خشى من ذلك الفتنة واختلاف الكلمة. وقوله: (إنى أخاف ألا يعوها ولا يضعوها مواضعها) ففيه دليل أنه لا يجب أن يوضع دقيق العلم إلا عند أهل الفهم له والمعرفة بمواضعه. وقوله: (يطيرها عنك كل مطير) دليل أنه لا يجب أن يحدث بكل حديث يسبق منه إلى الجهال الإنكار لمعناه؛ لما يخشى من افتراق الكلمة فى تأويله. وقوله: (أمهل حتى تقدم المدينة) الفضل كله فيه، وفيه دليل على أن أهل المدينة مخصوصون بالعلم والفهم، ألا ترى اتفاق عمر مع عبد الرحمن على ذلك ورجوعه إلى رأيه. وفيه: الحرص على المسارعة إلى استماع العلم، وأن الفضل فى القرب من العالم. وأما قوله لسعيد بن زيد: (ليقولن اليوم مقالة) أراد أن ينبهه ليحضر فهمه لذلك. وأما إنكار سعيد عليه فلعلمه باستقرار الأمور من الفرائض والسنن عندهم وقوله: (فمن عقلها ووعاها فليحدث بها) يعنى على حسب ما وعى وعقل. وفيه: الحض لأهل الضبط والفهم للعلم على تبليغه ونشره. وفى قوله: (ومن خشى ألا يعقلها فلا أحل له أن يكذب علىَّ). النهى لأهل التقصير والجهل عن الحديث بما لم يعلموه ولا ضبطوه، وإدخاله فى هذا الحديث آية الرجم وأنها نزلت على النبى صلى الله عليه وسلم وقرئت وعمل بها. ثم قوله: (لا ترغبوا عن آبائكم) أنه كان أيضًا من القرآن ورفع خطه، فمعنى ذلك أنه لا يجب لأحد أن يتنطع فيما لا نص فيه من القرآن، وفيما لا يعلم من سنته صلى الله عليه وسلم. ويتسور برأيه فيقول ما لا يحل له مما سولت له نفسه الأمارة بالسوء، وبما نزغ به الشيطان فى قلبه حتى يسأل أهل العلم بالكتاب والسنة عنه كما تنطع الذى قال: (لو مات عمر لبايعت فلانًا) لما لم يجد الخلافة فى قريش مرسومة فى كتاب الله فعرفه عمر أن الفرائض والسنن والقرآن منه ما ثبت حكمه عند أهل العلم به ورفع خطه فلذلك قدم عمر هاتين القصتين اللتين لا نص لهما فى كتاب الله، وقد كانتا فى كتاب الله ولا يعلم ثبات حكمها إلا أهل العلم كما لايعرف أهل بيت الخلافة ولمن تجب إلا من عرف مثل هذا الذى يجهله كثير من الناس. وقوله: (أخشى إن طال بالناس زمان) فيه دليل على دروس العلم مع مرور الزمن، ووجود الجاهلين السبيل إلى التأويل بغير علم فيضلوا ويضلوا كما قال صلى الله عليه وسلم. وقوله: (كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم) أى كفر حق ونعمة. وقوله: (لا تطرونى) عرفهم ما خشى عليهم جهله، والغلو فيه كما صنعت النصارى فى قولهم لعيسى أنه ابن الله عز وجل. وقولهم: (إن بيعة أبى بكر كانت فلتة) وقول عمر: إنها كانت كذلك فلتة. فقال أبو عبيد: معنى الفلتة الفجأة، وإنما كانت كذلك، لأنها لم ينتظر بها العوام، وإنما ابتدرها أكابر أصحاب محمد من المهاجرين وعامة الأنصار إلا تلك الطيرة التى كانت من بعضهم ثم أضعفوا له كافتهم أنه ليس لأبى بكر منازع، ولا شريك فى الفضل، ولم يكن يحتاج فى أمره إلى نظر ولا مشاورة فلهذا كانت فلتة وقى الله بها الإسلام وأهله شرها. وقال الكرابيسى: فى قولهم (كانت فلتة) لأنهم تفلتوا فى ذهابهم إلى الأنصار وبايعوا أبا بكر فى حضرتهم وفيهم من لا يعرف ما يجب عليه، فقال قائل منهم: (منا أمير ومنكم أمير) وقد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أن الخلافة فى قريش فإما بايعناهم على ما يجوز لنا، وإما قاتلناهم على ذلك فهى الفلتة. ألا ترى قول عمر: (والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من بيعة أبى بكر، ولأن أقدم فيضرب عنقى أحب إلىَّ من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر) فهذا يدل أن قول عمر: (كانت فلتة) لم يرد مبايعة أبى بكر، وإنما أراد ما وصفه الأنصار عليهم، وما كان من أمر سعد بن عبادة وقومه. وقول عمر: (قتل الله سعدًا) قال أبو عبيد: ولو علموا أن فى أمر أبى بكر شبهة وأن بين الخاصة والعامة فيه اختلافًا ما استجازوا الحكم عليهم بعقد البيعة، ولو استجازوه ما أجازه الآخرون إلا بمعرفة منهم به متقدمة. ويدل على ذلك ما رواه النسائى عن قتيبة، عن حميد بن عبد الرحمن، عن سلمة بن نبيط، عن نعيم، عن أبى هند، عن نبيط بن شريط، عن سالم بن عبيد وذكر موت النبى صلى الله عليه وسلم ثم قال: خرج أبو بكر فاجتمع المهاجرون يتشاورون بينهم، ثم قال: انطلقوا إلى إخواننا الأنصار. فقالت: منا أمير ومنكم أمير. فقال عمر: سيفان فى غمدٍ إذًا لا يصطلحان، ثم أخذ بيد أبى بكر فقال: من له هذه الثلاث: إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا، من صاحبه إذ هما فى الغار، مع من هما؟ ثم بايعه الناس أحسن بيعة وأجملها. فدل هذا الحديث أن القوم لم يبايعوه إلا بعد التشاور والتناظر واتفاق الملأ منهم الذين هم أهل الحل والعقد على الرضا بإمامته، والتقديم لحقه. ولقولهم (كانت فلتة) تفسير آخر. قال ثعلب وابن الأعرابى: الفلتة عند العرب: آخر ليلة من الأشهر الحرم يشك فيها فيقول قوم: هى من شعبان، ويقول قوم: هى من رجب؛ وبيان هذا أن العرب كانوا يعظمون الأشهر الحرم ولا يقاتلون فيها، ويرى الرجل قاتل أبيه فلا يمسه، فإذا كان آخر ليلة منها ربما شك قوم فقال قوم: هى من الحل، وقال بعضهم: من الحرم. فيبادر الموتور فى تلك الليلة فينتهز الفرصة فى إدراك ثأره غير معلوم أن ينصرم الشهر الحرام عن يقين، فيكثر تلك اليلة سفك الدماء وشن الغارات، فشبه عمر أيام حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان الناس عليه فى عهده من اجتماع الكلمة وشمول الألفة ووقع الأمنة بالشهر الحرام الذى لا قتال فيه، ولا نزاع وكان موته صلى الله عليه وسلم شبيهة القصة بالفلتة التى هى خروج من الحرم لما نجم عند ذلك من الخلاف وظهر من الفساد وما كان من أهل الردة، ومنع العرب الزكاة، وتخلف من تخلف من الأنصار جريًا منهم على عادة العرب ألا يسود العرب القبيلة إلا رجل منها؛ فوقى الله شرها بتلك البيعة المباركة التى كانت جماعًا للخير ونظامًا للكلمة) وقد روينا نص هذا المعنى عن سالم بن عبد الله؛ روى سيف، عن مبشر، عن سالم بن عبد الله قال: قال عمر: كانت إمارة أبى بكر فلتة وقى الله شرها، قلت: ما الفلتة؟ قال: كان أهل الجاهلية يتحاجزون فى الحرم فإذا كانت الليلة التى يشك فيها أدغلوا فأغاروا، وكذلك كانوا يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخل الناس من بين مدع إمارة أو جاحد زكاة، فلولا اعتراض أبى بكر دونها لكانت الفضيحة ذكره الخطابى. فإن قيل: فما معنى قول أبى بكر: (وليتكم ولست بخيركم)؟ قيل: هذا من فضله ألا يرى لنفسه فضلا على غيره، وهذه صفة الخائفين لله الذين لا يعجبون بعمل ولا يستكثرون له مهج أنفسهم وأموالهم. قال الحسن: والله ما خلق الله بعد النبيين أفضل من أبى بكر. قالوا: ولا مؤمن من آل فرعون؟ قال: ولا مؤمن من آل فرعون. وروى الزهرى عن أنس قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول حين بويع أبو بكر: إن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثانى اثنين إذ هما فى الغار أبو بكر فبايعوه بيعة عامة. قال المهلب: وقوله: (قد خالف عنا على والزبير) فليس هذا خلاف فى الرأى والمذهب وإنما هو فى الاجتماع والحضور. وفى إشارة عمر على أبى بكر أن يأتى الأنصار دليل على أنه إذا خشى من قوم فتنة وألا يجيبوا إلى الإقبال إلى أمر من فوقهم أن ينهض إليهم من فوقهم، ويبين لجماعتهم الحق قبل أن يحكم بذلك الرأى ويقضى به؛ ألا ترى إلى إجابة أبى بكر إلى ذلك وهو الإمام. وأما قول الرجلين من الأنصار (فلا تقربوهم واقضوا أمركم) فإنه يدل أن الأنصار لم تطبق على دعواها فى الخلافة، وإنما ادعى ذلك الأقل. وقول الأنصار: (نحن كتيبة الله) فإن ذلك لا ينكر من فضلهم كما قال أبو بكر، قال: ولكن لا يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحى من قريش أى لا يخرج هذا الأمر عنهم. وقوله: (أوسط العرب نسبًا) أى أعدل وأفضل، ومنه قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا} [البقرة: 143] أى عدلا. وقول أبى بكر: (قد رضيت لكم أحد الرجلين) هو أدب منه، خشى أن يزكى نفسه، فيعد ذلك عليه. وقوله: (أحد هذين الرجلين) يدل أنه لا يكون للمسلمين أكثر من إمام واحد، وقد جاء عن النبى صلى الله عليه وسلم: (اقتلوا الآخر منهما) وقد تؤول قوله: (اقتلوا الآخر منهما) بمعنى اخلعوه واجعلوه كمن قتل ومات بألا تقبلوا له قولاً، ولا تقيموا له دعوة حتى يكون فى أعداد من قتل وبطل. وفيه جواز إمامة المفضول إذا كان من أهل الغناء والكفاية، وقد قدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة على جيش فيه أبو بكر وعمر. وقول عمر: (لم أكره من مقالته غيرها) يعنى إشارته بالخلافة إلى عمر لما ذكر أن يقدم لضرب عنقه أحب إليه من التأمر والتقدم للخلافة بحضرته. وقوله: (إلا أن تسول لى نفسى) محافظة لما حلف عليه، ولمعرفته بالله من تقليب القلوب، فأخذ فى هذا بأبلغ العذر. وقول الحباب بن المنذر: (أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب) قال أبو عبيد عن الأصمعى: الجذيل: تصغير جذل، وجذل: وهو عود ينصب للإبل الجربى، تحتك به من الجرب، فأراد أن يستشفى برأيه كما كان تستشفى الإبل بالاحتكاك بذلك العود، والعذيق: تصغير عذق. والعذق، بفتح العين، النخلة نفسها، فأينما مالت النخلة الكريمة بنوا من ناحيتها المائل بناءً مرتفعًا يدعمها لكيلا تسقط، فذلك الترجيب، ولا يرجبُ إلا كرام النخل، والترجيب: التعظيم، يقال: رجبت الرجل رجبًا: أى عظمته، وإنما صغرهما جذيل وعذيق على وجه المدح، وإنما وصفهما بالكرم. قال المهلب: وقول عمر: (ابسط يدك يا أبا بكر) وإجابة أبى بكر له بعد أن قال: (قد رضيت لكم أحد الرجلين) دليل على أنه لم يحل له أن يتخلف عما قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدليل من الصلاة، وهى عمدة الإسلام، وبقوله للمرأة: (إن لم تجدينى فائتى أبا بكر). فإن قيل: كيف جاز له أن يجعل الأمر لأحد هذين الرجلين، وقد علم بالدليل الواضح استخلاف النبى صلى الله عليه وسلم له؟ قيل: ليس فى قوله ذلك تخلية له من الأمر إذ كان الرضى موقوفًا إليه والاختيار، وليس ذلك بمخرجه أن يرضى نفسه أهلا له، وإنما تأدب إذ لم يقل رضيت لكم نفسى، فلم يجز أحدهما أن يرى نفسه أهلا لها فى زمن فيه أبو بكر. وقد روى أن عمر قال لهم: (أيكم تطيب نفسه أن يؤخر أبا بكر عن مقام أقامه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال الأنصار بجمعهم: لا، وكذلك قال عمر: (إنّا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمرنا أقوى من مبايعة أبى بكر) يعنى فى قطع الخلاف، وبرضى الجماعة به، وإقرارهم بفضله. وقوله: (ونزونا على سعد بن عبادة) أى درسناه ووثبنا عليه فى متابعتهم إلى البيعة، والنزوان: الوثوب. وفيه الدعاء على من تخشى منه الفتنة. وقال الخطابى: معنى قوله: (قتل الله سعدًا): أى اجعلوه كمن قتل، واحسبوه فى عدد من مات، ولا تعتدوا بمشهده، وذلك أن سعدًا أراد فى ذلك المقام أن ينصب أميرًا على قومه، على مذهب العرب فى الجاهلية ألا يسود القبيلة إلا رجلا منها، وكان حكم الإسلام خلاف ذلك، فرأى عمر إبطاله بأغلظ ما يكون من القول وأشنعه، وكل شىء أبطلت فعله وسلبت قوته فقد قتلته وأمته، وكذلك قتلت الشراب إذا مزجته لتكسر شدته. وقوله: (وليس فيهم من تقطع الأعناق له مثل أبى بكر) يريد أن السابق منكم لا يلحق شأوه فى الفضل، ولا يكون أحد مثله، لأنه أسبق السابقين. وقوله: (تغرة أن يقتلا): قال أبو عبيد: التغرة: التغرير، يقال: غررت بالقوم تغريرًا وتغرة، وكذلك يقال فى المضاعف خاصة، كقولك: حللت اليمين تحليلا وتحلة، وإنما أراد عمر أن فى بيعتهما تغريرًا بأنفسهما للقتل وتعرضًا له فنهاهما عنه، وأمر ألا يؤمَّر واحد منهم لئلا يطمع فى ذلك، فيفعل هذا الفعل. قال أبو عمرو: الدافة: القوم يسيرون جماعة سيرًا ليس بالشديد، يقال: هم يدفون دفيفًا. وقوله: (تحصنونا من الأمر) يقال: حصنت الرجل من الشىء وأحصنته: أخرجته منه، وقال الأصمعى: التزوير: إصلاح الكلام وتهيئته. وقال أبو زيد: المزور من الكلام والمزوق واحد، وهو المصلح المحسن، وكذلك الخط إذا قوم أيضًا.
قال ابن علية: رأفة إقامة الحدود. - فيه: زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ: (سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصَنْ جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ). قَالَ عُرْوَةُ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ غَرَّبَ، ثُمَّ لَمْ تَزَلْ تِلْكَ السُّنَّةَ. أجمع العلماء أن قوله تعالى: {الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور: 2] فى زنا الأبكار خاصة لما ثبت فى حد الثيب أنه الرجم، وقول عمر على رءوس الناس: (الرجم فى كتاب الله حق على من زنا إذا أحصن)، ولم يكن فى الصحابة مخالف فكان إجماعًا، قال ابن المنذر: وهو قول الخلفاء الراشدين، يعنى تغريب البكر الزانى بعد جلده، روى ذلك عن أبى بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان، وعلى، وأُبى بن كعب، وابن عمر، وبه قال آئمة الأمصار وخالف ذلك أبو حنيفة ومحمد، فقالا: لا نفى على زان، وإنما عليه الجلد خاصة. قالوا: وهو ظاهر كتاب الله تعالى وليس فيه نفى، ولا معنى لهذا القول بخلافه للسنة الثابتة، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم أقسم فى حديث العسيف ليقضين بينهما بكتاب الله، فقضى بالجلد والتغريب على العسيف، فكان فعله بيانًا لكتاب الله وهو إجماع الصحابة، وعليه عامة العلماء، فسقط قول من خالفه. واختلفوا فى المسافة التى ينفى إليها الزانى، فروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: فدك. ومثله عن ابن عمر. وعن على بن أبى طالب: من الكوفة إلى البصرة. وقال الشعبى: ينفيه من عمله إلى غير عمله. وقال مالك: يغرب عامًا فى بلد يحبس فيه لئلا يرجع إلى البلد الذى نفى منه. وقال عبد الملك: ينفى إلى فدك، وإلى مثل الحار من المدينة. وقال أحمد: ينفى إلى قدر ما تقصر فيه الصلاة. وقال أبو ثور: إلى ميل وأقل من ذلك. قال ابن المنذر: ويجزئ فى ذلك ما يقع عليه اسم النفى قل أو كثر، ولا حجة لمن جعل لذلك حدا. واختلفوا فى المواضع التى تضرب، فقال مالك: الحدود كلها أو التعزير لا تضرب إلا فى الظهر. وقال أبو حنيفة: تضرب الأعضاء كلها إلا الفرج والرأس والوجه. وروى عن عمر وابن عمر أنهما قالا: لا يضرب الرأس. وقال الشافعى: يتقى الفرج والوجه. وروى ذلك عن على، رضى الله عنه.
- فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: (لَعَنَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم الْمُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالْمُتَرَجِّلاتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَقَالَ: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ، وَأَخْرَجَ فُلانًا، وَأَخْرَجَ عُمَرُ فُلانًا). وقد تقدم هذا الباب فى كتاب الأشخاص والملازمة، وفى كتاب الأحكام إلا أنه ذكر فيهما حديث أبى هريرة: (أن النبى صلى الله عليه وسلم أراد أن يحرق بيوت المتخلفين عن الصلاة معه) ولم يخرج هذا الحديث وسيأتى فى هذا الحديث فى مثل هذا الباب بعينه فى كتاب اللباس، وهناك أولى أن نتكلم فيه إن شاء الله تعالى ونذكر هنا منه طرفًا. قال المؤلف: إنما ذكر هذا الباب بعد نفى الزانى، وإن كان قد كرره فى غير موضع من كتابه ليعرفك أن التغريب على الزانى واجب؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم لما نفى من أتى من المعاصى ما لا حد فيه، فنفى من أتى ما فيه من الحدّ أوجب وأوكد فى النظر لو لم يكن فى نفى الزانى سنة ثابتة لتبين خطأ أبى حنيفة فى القياس. وقال المهلب: لعنة النبى صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء، وأمره بإخراجهم يدل على نفى كل من خشيت منه فتنة على الناس فى دين أو دنيا، وهذا الحديث أصل لذلك، والله الموفق.
- فيه: حديث أَبِى هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ فى العَسِيف، (وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَارْجُمْهَا، فَغَدَا أُنَيْسٌ فَرَجَمَهَا). وترجم له: باب هل يأمر الإمام رجلا فيضرب الحد غائبًا عنه؟ وقد فعله عمر، وهذان البابان معناهما واحد، وترجم له فى كتاب الأحكام باب: هل يجوز للإمام أن يبعث رجلا وحده للنظر فى الأمور. لا معنى للكلام فى هذه الأبواب فقد تكرر، وقد ذكر هذا المعنى فى كتاب الوكالات، وترجم لحديث العسيف باب الوكالات فى الحدود، ومعناها كلها أن الإمام يجوز له أن يبعث رجلا واحدًا يقوم مقامه فى إقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام، وأن الواحد يجوز فى ذلك، وليس من باب الشهادات التى لا يجوز فيها إلا رجلان فصاعدًا.
{مُسَافِحَاتٍ}: زَوَانِى، {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ}: أَخِلاءَ. - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الأمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ، قَالَ: (إِذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ بِيعُوهَا، وَلَوْ بِضَفِيرٍ). قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لا أَدْرِى أبَعْدَ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ. اختلف العلماء فى إحصان الأمة غير ذات الزوج ما هو؟ فقالت طائفة: إحصان الأمة تزويجها، فإذا زنت ولا زوج لها فعليها الأدب، ولا حد عليها. هذا قول ابن عباس وطاوس وقتادة، وبه قال أبو عبيد. وقالت طائفة: إحصان الأمة إسلامها، فإذا كانت الأمة مسلمة وزنت وجب عليها خمسون جلدة سواء كانت ذات زوج، أو لم تكن. روى هذا القول عن عمر بن الخطاب فى رواية، وهو قول على، وابن مسعود، وابن عمر، وأنس، والنخعى، وإليه ذهب مالك، والليث، والأوزاعى والكوفيون والشافعى. وقال إسماعيل فى قول من قال: فإذا أحصنّ: أسلمن بعد؛ لأن ذكر الأيمان قد تقدم لهن فى قوله: (من فتياتكم المؤمنات} [النساء: 25] فيبعد أن يقال: من فتياتكم المؤمنات، فإذا آمنّ، ويجوز فى كلام الناس على بعده فى التكرير، وأمر القرآن ينزل على أحسن وجوهه وأبينها. وأما قول من قال: فإذا أحصن: تزوجن، فلا حد على الأمة حتى تزوج، فإنهم ذهبوا فى ذلك إلى ظاهر القرآن، وأحسبهم لم يعلموا هذا الحديث: (أن النبى صلى الله عليه وسلم سُئل عن الأمة إذا زنت، ولم تحصن. فقال: اجلدوها) فالأمر عندنا أن الأمة إذا زنت، وقد أحصنت مجلودة بكتاب الله، وهو قوله: (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء: 25] وإذا زنت قبل أن تحصن مجلودة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المذكور فى هذا الباب، وإنما استوى الإحصان فيها وغير الإحصان والله أعلم؛ لأنه جعل عليها إذا زنت نصف ما على الحرائر من العذاب، وكان عذاب الحرائر فى الزنا فى موضع، والجلد فى موضع فلما جعل ما على الأمة نصف ما على الحرة من العذاب؛ علمنا أن العذاب الذى ينتصف هو الجلد؛ لأن الجلد يكون له نصف، والرجم لا يكون له نصف. وزعم أهل المقالة الأولى أنه لم يقل فى هذا الحديث: (ولم تحصن) غير مالك، وليس كما زعموا، وقد رواه يحيى بن سعيد، عن ابن شهاب كما رواه مالك، ورواه كذلك أيضًا طائفة عن ابن عيينة، عن الزهرى، وإذا اتفق مالك ويحيى بن سعيد وابن عيينة فهو حجة على من خالفهم، وسيأتى ما بقى من معانى هذا الباب بعد هذا إن شاء الله تعالى.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا زَنَتِ الأمَةُ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا، وَلا يُثَرِّبْ، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا، وَلا يُثَرِّبْ، ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ، فَلْيَبِعْهَا، وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ). استدل بهذا الحديث من لم يوجب النفى على النساء، أحرارًا كن أو إماء، ولا على العبيد، روى ذلك عن الحسن وحماد، وهو قول مالك، والأوزاعى، وعبيد الله بن الحسن، وأحمد، وإسحاق، وقال الشافعى وأبو ثور: على النساء النفى وعلى الإماء والعبيد. وهو قول ابن عمر، واحتج الشافعى بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (من زنا ولم يحصن فعليه جلد مائة وتغريب عام) فعم ولم يخص، واحتج أيضًا بقوله تعالى: {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء: 25] والتغريب له نصف. واحتج عليه مخالفه بقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها.. ثم إن زنت الثالثة فليبيعها) فدل هذا على سقوط النفى عنها؛ لأنه محال أن يأمر ببيع من لا يقدر مبتاعه على قبضه من بائعه إلا بعد مضى ستة أشهر، وأيضًا فإن العبيد والإماء لا وطن لهم فيعاقبوا بإخراجهم عنه، وفى نفيهم قطع للسيد عن الخدمة وضرر، ومما يدل أنه لا نفى على النساء قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تسافر امرأة يومًا وليلة إلا مع ذى محرم) فإن أخرجتم معها ذا محرم عاقبتم من زنا ومن لم يزن وهذا محال، وإن قلتم إنها تغرب وحدها فقد خالفتم الخبر؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم نهاها أن تسافر وحدها، وفى قوله صلى الله عليه وسلم: (فليجلدها) إباحة للسيد أن يقيم الحدود على عبيده. وقد اختلف العلماء فى ذلك، فقال الشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور: للسيد أن يقيم الحدود كلها على عبيده. وقال مالك والليث: يحده السيد فى الزنا وشرب الخمر والقذف إذا شهد عنده الشهود لا بإقرار العبد إلا القطع خاصة فإنه لا يقطعه إلا الإمام. وقال الكوفيون: لا يقيم الحدود كلها إلا الإمام خاصة، فإذا علم السيد أن عبده زنا يوجعه ضربًا ولا يبلغ به الحد. وحجتهم ما روى عن الحسن، وعبد الله بن محيريز، وعمر بن عبد العزيز أنهم قالوا: الجمعة والحدود والزكاة والنفى والحكم إلى السلطان خاصة. وحجة القول الأول قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها) وسائر الحدود قياسًا على الجلد الذى جعله النبى صلى الله عليه وسلم إلى السيد، وروى عن ابن عمر، وابن مسعود، وأنس وغيرهم أنهم أقاموا الحدود على عبيدهم، ولا مخالف لهم من الصحابة. وحجة مالك ظاهر حديث أبى هريرة، وإنما استثنى القطع؛ لأن فيه مثلة بالعبد، فيدعى السيد أن عبده سرق ليزيل عنه العتق الذى يلزمه بالمثلة، فمنع منه قطعًا للذريعة، وحد الزنا وغيره لا مثلة فيه، فلا يتهم عليه. وقد قال بعض أصحاب مالك: إن للسيد قطعه إذا قامت على ذلك بينة. وقال ابن المنذر: يقال للكوفيين إذا جاز ضربه تعزيرًا، وذلك غير واجب على الزانى، ومنع مما أطلقته السنة، فذلك خلاف للسنة الثابتة. وقوله: (فليجلدها ولا يثرب) يدل أن كل من وجب عليه حد وأقيم عليه أنه لا ينبغى أن يثرب عليه ولا يعدد، وإنما يصلح التثريب واللوم قبل مواقعة الذنب للردع والزجر عنه. وقوله صلى الله عليه وسلم: (ثم ليبعها ولو بضفير) معناه عند الفقهاء الندب والحض على مباعدة الزانية لما فى السكوت على ذلك من خوف الرضى به، وذلك ذريعة إلى تكثير أولاد الزنا، وقد قالت أم سلمة: (يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث). قال بعض أهل العلم: الخبث: أولاد الزنا. وقال أهل الظاهر بوجوب بيع الأمة إذا زنت الرابعة وجلدت، ولم يقل به أحد من السلف، وكفى بهذا جهلا، ولا يشتغل بهذا القول لشذوذه، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال فكيف يأمر ببيع أمة لها قيمة بحبل من شعر لا قيمة له؟ وإنما أراد بذلك النهى عنها، والأمر بمجانبتها، فخرج لفظه صلى الله عليه وسلم على المبالغة فى ذلك، وهذا من فصيح كلام العرب.
- فيه: ابْنَ أَبِى أَوْفَى: رَجَمَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: أَقَبْلَ النُّورِ أَمْ بَعْدَهُ؟ قَالَ: لا أَدْرِى. وقال بَعْضُهُمُ: الْمَائِدَةِ، وَالأوَّلُ أَصَحُّ. - فيه: ابْنِ عُمَرَ: (إِنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا تَجِدُونَ فِى التَّوْرَاةِ فِى شَأْنِ الرَّجْمِ؟ فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ، قَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَلامٍ: كَذَبْتُمْ، إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ، فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ، فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَلامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، قَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَا، فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَحْنِى عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ). اختلف العلماء فى إحصان أهل الذمة، فقالت طائفة فى الزوجين الكتابيين يزنيان ويرفعان إلينا: عليهما الرجم، وهما محصنان، هذا قول الزهرى والشافعى وقال الطحاوى: وروى عن أبى يوسف أن أهل الكتاب يحصن بعضهم بعضًا، ويحصن المسلم النصرانية، ولا تحصنه النصرانية، واحتج الشافعى بحديث ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين اللذين زنيا، وقال: إنما رجمتهما لأنهما كانا محصنين. وقال النخعى: لا يكونان محصنين حتى يجامعا بعد الإسلام. وهو قول مالك والكوفيين، قالوا: الإسلام من شرط الإحصان، وقالوا فى حديث ابن عمر: إن رجم النبى صلى الله عليه وسلم اليهوديين اللذين زنيا بحكم التوراة حين سأل الأحبار عن ذلك، إنما كان من باب تنفيذ الحكم عليهم بكتابهم التوراة، وكان ذلك أول دخوله صلى الله عليه وسلم المدينة، ثم نزل عليه القرآن بعد ذلك الذى نسخ خطه وبقى حكمه، فالرجم لمن زنا، فليس رجمه اليهوديين من باب إحصان الإسلام فى شىء، وإنما هو من باب تنفيذ الحكم عليهم بالتوراة، وكان حكم التوراة بالرجم على المحصن وغير المحصن، وكان على النبى صلى الله عليه وسلم اتباعه والعمل به؛ لأن على كل نبى اتباع شريعة النبى الذى قبله حتى يحدث الله له شريعة تنسخها، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهوديين على ذلك الحكم، ثم نسخ الله تعالى ذلك بقوله: (واللاتى يأتين الفاحشة (إلى) البيوت.... أو يجعل الله لهن سبيلا} [النساء: 15] فجعل هذا ناسخًا لما قبله، ولم يفرق فى ذلك بين المحصن ولا غيره، ثم نسخ ذلك بالآية التى بعدها، ثم جعل الله لهن سبيلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) ففرق حينئذ بين حد المحصن وغير المحصن. هذا قول الطحاوى، ونزل بعد هذا على النبى صلى الله عليه وسلم: (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} [العنكبوت: 51]، فلم يحكم بعد هذه الآية بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليه إلا بالقرآن، إلا أن العلماء اختلفوا فى أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا، فقالت طائفة: الإمام مخير فى ذلك إن شاء حكم بينهم، روى هذا عن ابن عباس، وعطاء، والشعبى، والنخعى، وهو قول مالك، وأحد قولى الشافعى، وجعلوا قوله تعالى: {فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} [المائدة: 42] محكمة غير منسوخة. وقال آخرون: واجب على الحاكم أن يحكم بينهم، وزعموا أن قوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49] ناسخ للتخيير فى الحكم بينهم. روى هذا عن مجاهد وعكرمة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وقول الشافعى الثانى. وتأول الأولون قوله: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49] إن حكمت.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِد: أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَقَالَ الآخَرُ: وَهُوَ أَفْقَهُهُمَا، أَجَلْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأْذَنْ لِى أَنْ أَتَكَلَّمَ، قَالَ: تَكَلَّمْ، قَالَ: إِنَّ ابْنِى كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، قَالَ مَالِكٌ: وَالْعَسِيفُ الأجِيرُ، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَأَخْبَرُونِى أَنَّ عَلَى ابْنِى الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَبِجَارِيَةٍ لِى، ثُمَّ إِنِّى سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ، فَأَخْبَرُونِى أَنَّ مَا عَلَى ابْنِى جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَإِنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَا وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لأقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ، وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا، وَأَمَرَ أُنَيْسًا الأسْلَمِىَّ أَنْ يَأْتِىَ امْرَأَةَ الآخَرِ، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ، فَارْجُمْهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا). أجمع العلماء أن من قذف امرأته أو امرأة غيره أو رجلا بالزنا فلم يأت على ذلك بالبينة أن الحد يلزمه إلا أن يقر له المقذوف بالحدّ ويعترف به، فلهذا وجب على الحاكم أن يبعث إلى المرأة يسألها عما رميت به لأنه لا يلزمها الحد عند عدم البينة إلا بإقرارها، ولو لم تعترف المرأة فى هذا الحديث لوجب على والد العسيف الحد لقذفه لها، ولم يلزمه الحد لو لم يعترف ابنه بالزنا؛ لأنه يسقط عنه حد القذف لابنه. واختلف العلماء فيمن أقر بالزنا بامرأة معينة وجحدت المرأة قال مالك: يقام عليه حد الزنا، وإن طلبت حد القذف أقيم عليه أيضًا، وكذلك لو أقرت هى، وأنكر هو، وقال أبو حنيفة والأوزاعى: عليه حد القذف، ولا حد عليه للزنا. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعى: من أقر منهما فإنما عليه حد الزنا فقط. والحجة لقول مالك أن حد الزنا واجب عليه بإقراره، وليس إقراره دليلا على صدقه على المقذوف؛ لأنا لو علمنا صدقه بالبينة أو بإقرار المرأة لم يجب عليه الحد، فلما لم يكن إلى البينة ولا إلى إقرار المرأة سبيل وجب لها أن تطلب حقها من القاذف، كما لو أقر رجل أن زوجته أخته لحرمت عليه ولم يثبت نسبها بقوله وحده. والحجة لأبى حنيفة والأوزاعى، أنه لما قذفها ولم يأت بأربعة شهداء لزمه حد القذف لقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات} [النور: 4] الآية، فلما حد لها استحال أن يحد فى الزنا لحكمنا لها بالإحصان، وأيضًا فإنه لا يجوز أن يجتمع حدان أبدًا، فإذا اجتمعا ثبت ألزامهما، وإنما كان عنده حد القذف ألزم من حد الزنا؛ لأن من أقر على نفسه بالزنا ثم رجع فإنه يقبل رجوعه، ومن قذف أحدًا لم ينفعه الرجوع، وكذلك من وجب عليه حد الزنا والقذف وكان عليه القتل؛ فإنه يحد للقذف ويقتل ولا يحد للزنا. والحجة لأبى يوسف ومحمد والشافعى أنا قد أحطنا علمًا أنه لا يجب عليه الحدان جميعًا؛ لأنه إن كان زانيًا فلا حد عليه للقذف، وإن كان قاذفًا لمحصنة فليس بزانٍ، وهو قاذف فحُد للقذف، وإنما وجب عليه حد الزنا؛ لأن من أقر على نفسه وعلى غيره لزمه ما أقر به على نفسه، وهو مدعٍ فيما أقر به على غيره، فلذلك لم يقبل قوله عليها، ويؤخذ بإقراره على نفسه.
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا صَلَّى فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى، فَلْيُقَاتِلْهُ)، وَفَعَلَهُ أَبُو سَعِيدٍ. - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِى، فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسَ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، فَعَاتَبَنِى، وَجَعَلَ يَطْعُنُ بِيَدِهِ فِى خَاصِرَتِى، وَلا يَمْنَعُنِى مِنَ التَّحَرُّكِ إِلا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.. الحديث. وقالتْ مرة: لَكَزَنِى لَكْزَةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: حَبَسْتِ النَّاسَ لقِلادَةٍ، فَبِى الْمَوْتُ لِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَوْجَعَنِى. فى حديث أبى سعيد: أنه يجوز للرجل أن يؤدب غير أهله بحضرة السلطان إذا كان ذلك فى واجب وعلم أن السلطان يرضى بذلك، ولا ينكره لجوازه فى الشريعة. قال المهلب: وفى حديث عائشة أنه يجوز أن يؤدب ابنته بحضرة زوجها لا سيما فى أمر الدين، وقد تقدم هذا الحديث فى كتاب التيمم وتقدم حديث أبى سعيد فى كتاب الصلاة فى باب يرد المصلى من مَرَّ بين يديه.
- فيه: سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ قَالَ: (لَوْ رَأَيْتُ رَجُلا مَعَ امْرَأَتِى لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، لأنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي). قال المهلب: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أتعجبون من غيرة سعد؟ والله أغير منى) يدل على وجود القود فيمن قتل رجلا وجده مع امرأته لأن الله تعالى وإن كان أغير من عباده فإنه قد أوجب الشهود فى الحدود فلا يجوز لأحد أن يتعدى حدود الله، ولا يسفك دمًا بدعوى. وقد روى مالك هذا المعنى فى حديث سعد بينًا، روى مالك، عن سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة: (أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله، أرأيت إن وجدت مع امرأتى رجلا أمهله حتى آتى بأربعة شهداء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم) ففى هذا من الفقه قطع الذرائع والتسيب إلى قتل الناس والادعاء عليهم بمثل هذا وشبهه، وفى حديث سعد من رواية مالك: النهى عن إقامة الحدود بغير سلطان وبغير شهود؛ لأن الله تعالى عظم دم المسلم وعظم الإثم فيه، فلا يحل سفكه إلا بما أباحه الله به، وبذلك أفتى على بن أبى طالب فيمن قتل رجلا وجده مع امرأته فقال: إن لم يأت بأربعة شهداء؛ فليعط برمته. أى يسلِّم برمته للقتل، وعلى هذا جمهور العلماء. وقال الشافعى وأبو ثور: يسعه فيما بينه وبين الله قتل الرجل وامرأته إن كانا ثيبين وعلم أنه قد نال منها ما يوجب الغسل ولا يسقط عنه القود فى الحكم. وقال أحمد بن حنبل: إن جاء ببينة أنه وجده مع امرأته وقتله يهدر دمه إن جاء بشاهدين. وهو قول إسحاق وهذا خلاف قوله فى حديث مالك: (أمهله حتى آتى بأربعة شهداء؟ قال: نعم) وقال ابن حبيب: إذا كان المقتول محصنًا، فالذى ينجى قاتله من القتل أن يقيم أربعة شهداء أنه فعل بامرأته، وأما إن كان المقتول غير محصن فعلى قاتله القود، وإن أتى بأربعة شهداء، هذا وجه الحديث عندى، وذكر ابن مزين عن ابن القاسم أن ذلك فى البكر والثيب سواء يترك قاتله إذا قامت له البينة بالرؤية. وقال أصبغ عن ابن القاسم وأشهب: أستحب الدية فى البكر فى مال القاتل. وهو قول أصبغ. وقال المغيرة: لا قود فيه ولا دية، وقد أهدر عمر بن الخطاب دمًا من هذا الوجه، روى الليث، عن يحيى بن سعيد أن رجلا فقد أخاه فجعل ينشده فى الموسم، فقام رجل فقال: أنا قتلته، فمر به إلى عمر بن الخطاب فقال: مررت بأخى هذا فى بيت امرأة مغيبة يقول: وأشعث غره الإسلام منى أبيت على ترائبها وكسرى خلوت بعرسه ليل التمام على صهباء لاحقة الحزام فأهدر عمر دمه. وروى الليث، عن يحيى بن سعيد: (أن زيد بن أسلم أدرك المرأة الهذلية التى رمت ضيفها الذى أرادها على نفسها فقتلته عجوز كبيرة، فأخبرته أن عمر أهدر دمه) وقال ابن مزين: ما روى عن عمر فى هذا أنه ثبت عنده ذلك من عداوتهم وظلمهم، ولو أخذ بقول الرجل فى ذلك بغير بينة لعمد الرجل إلى الرجل يريد قتله، فيدعوه إلى بيته لطعام أو لحاجة فيقتله ويدعى أنه وجده مع امرأته، فيؤدى ذلك إذا قبل قوله إلى إباحة الدماء وإسقاط القود بغير حق ولا إثبات. وقال ابن المنذر: والأخبار عن عمر مختلفة وعامتها منقطعة، فإن ثبت عن عمر أنه أهدر الدم فيها، فإنما ذلك لبينة ثبتت عنده تسقط القود. وروى عبد الرزاق، عن الثورى، عن المغيرة بن النعمان، عن هانئ بن حزام: (أن رجلا وجد مع امرأته رجلا فقتلهما، فكتب عمر كتابًا فى العلانية: أن يقيدوه، وكتابًا فى السرّ: أن أعطوه الدية). وروى الأعمش، عن زيد بن وهب، أن عمر أمر بالدية فى ذلك. قال الشافعى: وبحديث على نأخذ، ولا أحفظ عن أحد من أهل العلم قبلنا مخالفًا له. قال ابن المنذر: وقد حرم الله دماء المؤمنين فى كتابه إلا بالحق، فغير جائز إباحة ما ثبت تحريمه إلا ببينة، ونهى النبى صلى الله عليه وسلم سعدًا أن يقتل حتى يأتى بأربعة شهداء، وفى نهى النبى له عن ذلك مع مكانه من الثقة والصلاح دليل على منع جميع الناس من قتل من يَدّعون إباحة قتله بغير بينة.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَهُ أَعْرَابِىٌّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ امْرَأَتِى وَلَدَتْ غُلامًا أَسْوَدَ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَنَّى كَانَ ذَلِكَ، قَالَ: أُرَاهُ عِرْقٌ نَزَعَهُ، قَالَ: فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ). اختلف العلماء فى هذا الباب. فقالت طائفة: لا حدّ فى التعريض، وإنما يجب الحدّ بالتصريح البين. روى هذا عن ابن مسعود وقاله القاسم بن محمد والشعبى، وإليه ذهب الثورى والكوفيون والشافعى، إلا أن أبا حنيفة والشافعى يوجبان عليه الأدب والزجر ويُنهى عن ذلك. واحتج الشافعى بحديث هذا الباب، قال: وقد عرض بزوجته تعريضًا لا خفاء به، ولم يوجب النبى صلى الله عليه وسلم حدا، وإن كان غلب على السامع أنه أراد القذف إذ قد يحتمل قوله وجهًا غير القذف، من التعجب والمسألة عن أمره. وقالت طائفة: التعريض كالتصريح. روى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان وعروة والزهرى وربيعة، وبه قال مالك والأوزاعى. قال مالك: وذلك إذا علم أن قائله أراد به قذفًا فعليه الحد، واحتج فى ذلك بما روى عن أبى الرجال، عن أمه عمرة أن رجلين استبا فى زمن عمر بن الخطاب، فقال أحدهما للآخر: والله ما أبى بزانٍ ولا أمى بزانية. فاستشار فى ذلك عمر بن الخطاب، فقال قائل: مدح أباه وأمَّهُ. وقال آخر: بل كان لأبيه وأمه مدح غير هذا نرى أن يجلد الحد، فجلده عمر ثمانين. وقال أهل هذه المقالة: لا حجة فى حديث أبى هريرة؛ لأن الرجل لم يرد قذف امرأته والنقيصة لها، وإنما جاء مستفتيًا فلذلك لم يحده النبى صلى الله عليه وسلم ولذلك لم يحد عويمر، وأرجئ أمره حتى نزل فيه القرآن. واحتج الشافعى فقال: لما لم يجعل التعريض بالخطبة فى العدة بمنزلة التصريح، كذلك لا يجعل التعريض فى القذف بمنزلة التصريح. قال إسماعيل بن إسحاق: وليس كما ظن وإنما أجيز له التعريض بالنكاح دون التصريح؛ لأن النكاح لا يكون إلا من اثنين، فإذا صرَّح بالخطبة وقع عليه الجواب من الآخر بالإيجاب أو الموعد فمنعوا من ذلك، فإذا عرَّض به فهم أن المرأة من حاجته فلم يحتج إلى جواب، والتعريض بالقذف لا يكون إلا من واحد، ولا يكون فيه جواب، فهو قاذف من غير أن يجيبه أحد فقام مقام التصريح.
- فيه: عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ، عَنْ أَبِى بُرْدةَ، قَالَ: (كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ إِلا فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ). - وَعَنْ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ جَابِرٍ عَمَّنْ سَمِعَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لا عُقُوبَةَ فَوْقَ عَشْرِ ضَرَبَاتٍ إِلا فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ). - وَعَنْ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ جَابِرٍ: أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بُرْدَةَ الأنْصَارِىَّ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (لا تَجْلِدُوا فَوْقَ عَشْرَةِ أَسْوَاطٍ إِلا فِى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ). - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوِصَالِ، فَقَالَ لَهُ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: فَإِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوَاصِلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّكُمْ مِثْلِى، إِنِّى أَبِيتُ يُطْعِمُنِى رَبِّى وَيَسْقِينِ، فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ، وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا، ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلالَ، فَقَالَ: لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ كَالْمُنَكِّلِ بِهِمْ حِينَ أَبَوْا). - وفيه: ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اشْتَرَوْا طَعَامًا جِزَافًا أَنْ يَبِيعُوهُ فِى مَكَانِهِمْ حَتَّى يُؤْوُوهُ إِلَى رِحَالِهِمْ. - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ فِى شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ حَتَّى يُنْتَهَكَ حُرْمَة مِنْ حُرُمَاتِ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ. اختلف العلماء فى مبلغ التعزير، فقال أحمد وإسحاق بحديث جابر لا يزاد على عشر جلدات إلا فى حد. وروى عن الليث أنه قال: يحتمل ألا يتجاوز بالتعزير عشرة أسواط، ويحتمل ما سوى ذلك. وروى ابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه أمر زيد بن ثابت أن يضرب رجلا عشرة أسواط. وعنه رواية ثانية أنه كتب إلى أبى موسى الأشعرى: (ألا يبلغ بنكال فوق عشرين سوطًا). وعنه فى رواية أخرى: (ألا يبلغ فى تعزير أكثر من ثلاثين جلدة). وقال الشافعى فى قوله الآخر: لا يبلغ به عشرين سوطًا؛ لأنها أبلغ الحدود فى العبد فى شرب الخمر؛ لأن حد الخمر فى الحر عنده فى الشرب أربعون. وقال أبو حنيفة ومحمد: لا يبلغ به أربعين سوطًا بل ينقص منها سوطًا؛ لأن الأربعين أقل الحدود فى العبد فى الشرب والقذف، وهو أحد قولى الشافعى. وقال ابن أبى ليلى وأبو يوسف: أكثره خمسة وسبعون سوطًا. وقال مالك: التعزير ربما كان أكثر من الحدود إذا أدى الإمام اجتهاده إلى ذلك. وروى مثله عن أبى يوسف وأبى ثور، واحتج أحمد وإسحاق بحديث جابر، وقال ابن المنذر: فى إسناده مقال. وقال الأصيلى: اضطرب إسناد حديث عبد الله بن جابر، فوجب تركه لاضرابه، ولوجود العمل فى الصحابة والتابعين بخلافه. وقال الطحاوى: لا يجوز: اعتبار التعزير بالحدود لأنهم لا يختلفون أن التعزير موكول إلى اجتهاد الإمام، فيخفف تارة ويشدد تارة، فلا معنى لاعتبار الحد فيه وتجاوز مجاوزته له، والدليل على ذلك ما رواه ابن نمير، عن الزهرى، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أبيه أن حاطبًا توفى، وأعتق من صلى وصام من رقيقه، وكانت له وليدة نوبية من رقيقه قد صلت وصامت، وهى عجمية لا تفقه فلم يرعه إلا حملها، فذهب إلى عمر فأخبره فأرسل إليها أحبلت؟ قالت: نعم من مرغوس بدرهمين. فإذا هى تستهل به، وصادفت عنده على ابن أبى طالب وعثمان وعبد الرحمن فقال: أشيروا علىَّ. فقال على وعبد الرحمن: قد وقع عليها الحد. فقال: أشر علىَّ يا عثمان فقال: قد أشار عليك أخواك. فقال: أشر علىَّ أنت. قال عثمان: إنها تستهل به كأنها لا تعلمه، وليس الحد إلا على من علمه. فقال عمر: صدقت. فأمر فجلدت مائة وغربت. قال ابن شهاب: وقد كانت نكحت غلامًا لمولاها ثم مات عنها إلا أنه كانت تصلى مع المسلمين، فجعل عمر فى هذا الحديث التعزير بمائة؛ لأنه كان عليها علم الأشياء المحرمة، وغربها زيادة فى العقوبة، كما غرب فى الخمر. قال ابن القصار: وقد روى أن معن بن زائدة زور كتابًا على عمر ونقش مثل خاتمه، فجلده مائة، ثم شفع له قوم، فقال: أذكرتنى الطعن وكنت ناسيًا، فجلده مائة أخرى، ثم جلده بعد ذلك مائة أخرى ثلاث مرار بحضرة الصحابة، ولم ينكر ذلك أحد، فثبت أنه إجماع. قال: ولما كان طريق التعزير إلى اجتهاد الإمام على حسب ما يغلب على ظنه أنه يردع، وكان فى الناس من يردعه الكلام، وكان فيهم من لا يردعه مائة سوط، وهى عنده كضرب المروحة؛ لم يكن للتحديد فيه معنى، وكان مفوضًا إلى ما يؤديه اجتهاده أن مثله يردع. قال المهلب: ألا ترى أن النبى صلى الله عليه وسلم زاد المواصلين فى النكال كذلك يجوز للإمام أن يزيد فيه على حسب اجتهاده، وكذلك ضرب المتابعين للطعام، وانتقامه صلى الله عليه وسلم لحرمات الله لم يكن محدودًا فيجب أن يضرب كل واحد منهم على قدر عصيانه للسنة، ومعاندته أكثر مما يضرب الجاهل، ولو كان فى شىء من ذلك حد لنقل ولم يجز خلافه.
- فيه: سَهْلِ، قَالَ: شَهِدْتُ الْمُتَلاعِنَيْنِ، فَقَالَ النبى صلى الله عليه وسلم، إِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ فَهُوَ قَالَ الزُّهْرِىَّ: فَجَاءَتْ بِهِ لِلَّذِى يُكْرَهُ. - وفيه: ابْنُ عَبَّاسٍ ذَكَرَ الْمُتَلاعِنَيْنِ، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: هِىَ الَّتِى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا امْرَأَةً عَنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ؟ قَالَ: لا تِلْكَ امْرَأَةٌ أَعْلَنَتْ... الحديث. إلى قوله صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ بَيِّنْ، فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الَّذِى ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَهَا، فَلاعَنَ النَّبِىُّ- صلى الله عليه وسلم- بَيْنَهُمَا، فَقَالَ الرَجُلٌ لابْنِ عَبَّاسٍ: هِىَ الَّتِى قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ رَجَمْتُ أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ رَجَمْتُ هَذِهِ؟ فَقَالَ: لا، تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تُظْهِرُ فِى الإسْلامِ السُّوءَ). قال المهلب: هذا الحديث أصل فى أنه لا يجوز أن يحد أحد بغير بينة. وإن اتهم بالفاحشة، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم قد وسم ما فى بطن المرأة الملاعنة بالمكروه وبغيره، فجاءت به على النعت المكروه بالشبه للمتهم بها، فلم يقم عليها الحد بالدليل الواضح إذكان ذلك خلاف ما شرع الله، فلا يجوز أن تتعدى حدود الله، ولا يستباح دم ولامال إلا بيقين لا شك فيه، وهذه رحمة من الله تعالى بعباده، وإرادة الستر عليهم والرفق بهم ليتوبوا.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّى يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاتِ). قال الله تعالى: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات} [النور: 23] وهن العفائف الحرائر المسلمات،) ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور: 4] فناب ذكر رمى النساء عن ذكر رمى الرجال، وأجمع المسلمون أن حكم المحصنين فى القذف كحكم المحصنات قياسًا، واستدلالا، وأن من قذف حرا عفيفًا مؤمنًا عليه الحد ثمانون كمن قذف حرة مؤمنة، وجاءت الأخبار عن النبى صلى الله عليه وسلم بالتغليظ فى رمى المحصنات، وأن ذلك من الكبائر. قال المهلب: إنما سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم موبقات؛ لأن الله تعالى إذا أراد أن يأخذ عبده بها أوبقه فى نار جهنم.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ وَهُوَ بَرِىءٌ مِمَّا قَالَ: جُلِدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ). فى هذا الحديث النهى عن قذف العبيد والاستطالة عليهم بغير حق؛ لإخبار النبى صلى الله عليه وسلم أنه من فعل ذلك جلد يوم القيامة. وقوله: (إلا أن يكون كما قال) دليل على أنه لا إثم عليه فى رميه عبده بما فيه، وأن ذلك ليس من باب الغيبة المنهى عنها فى الأحرار. قال المهلب: والعلماء مجمعون أن الحر إذا قذف عبدًا فلا حد عليه، وحجتهم قوله صلى الله عليه وسلم: (من قذف مملوكه جلد يوم القيامة) فلو وجب عليه الحد فى الدنيا لذكره، كما ذكره فى الآخرة، فجعل صلى الله عليه وسلم العبيد غير مقارنين للأحرار فى الحرمة فى الدنيا، فإذا ارتفع ملك العبد فى الآخرة واستوى الشريف والوضيع، والعبد والحر، ولم يكن لأحد فضل إلا بالتقى، فتكافأ الناس فى الحدود والحرمة، وإنما لم يكافئوا فى الدنيا؛ لئلا تدخل الداخلة على المالكين من مكافأتهم لهم، فلا تصح لهم حرمة ولا فضل فى منزلة، وتبطل محنة التسخير؛ حكمة من الحكيم الخبير لا إله إلا هو. وقال مالك والشافعى: من قذف من يحسبه عبدًا فإذا هو حر فعليه الحد. قال ابن المنذر: واختلفوا فيما يجب على قاذف أم الولد، فروى عن ابن عمر أنه عليه الحد، وبه قال مالك، وهو قياس قول الشافعى، وذلك إذا قذف بعد موت السيد، وهو قياس قول كل من لا يرى بيع أمهات الأولاد، وروى عن الحسن البصرى أنه كان لايرى جلد قاذف أم الولد.
|